كان صمت الإله الثيمة الأساسية لأعمال مختلفة، اختلف التناول باختلاف الصانع وما صبغه على الحكاية من رؤيته الفنية وأسئلته وشكوكه وإيمانه، منهم من تطرق إلى الصمت كالمعضلة الكبرى للإنسان وكيف يتعامل معه وماذا يشعر خلاله، ومنهم من تجاوز التساؤل ليتعامل مع نتيجته، وماذا علينا أن نفعل في ظل كل هذه الأهوال من حولنا والمحاطة بصمت مفزع، أي حقيقة يفرضها علينا هذا الصمت، وهل من الممكن أن نشكل بسببه رؤيتنا الإيمانية أم أن هناك صوتاً لا نسمعه خلال ذلك الصمت، صوتاً يطلب منا الإصغاء بشدة، بالقلب لا بالأذن.
Silence 2016 -1
لطالما كان الإيمان والإله أكثر ما شغل بال المعلم المخضرم مارتن سكورسيزي الذي امتلأت أفلامه بثيمات إيمانية، أبرزها الخطيئة والمغفرة، يفتتح هنا فيلمه المأخوذ عن رواية الكاتب الياباني شوساكو إندو بشاشة سوداء وصوت ضوضاء مزعجة غير باعثة على الطمأنينة، ثم تتوسط الشاشة كلمة الصمت ويختفي الصوت.
بهذه الطريقة البسيطة يدخلنا سكورسيزي في فيلمه وأسئلته، فهل نرى الإله ونتحسس وجوده في صمته وما يشمله من نعم ونقم، معجزات الجمال وآيات القبح، أم أن الصمت هو الإجابة عن هواجسنا بأن لا صوت أعلى يتحكم بشيء ونحن هنا وحدنا ضائعين في عالم بلا معنًى نحاول فقط النجاة حتى نصل إلى لحظة صمتنا النهائية، وهنا ستهدأ نفوسنا كما هدأت - ولو للحظات - عند بداية فيلمه.
ينقلنا بعدها مباشرة من هذا المجاز البسيط عن الصمت إلى صمته – الإله - الفعلي، حيث نرى رءوساً مفصولة وأجساداً تعذب دفاعاً عن مجده وحبّاً له، هذه المشاهد هي جزء من آخر رسالة بعثها الأب فيريرا قبل أن تنقطع عنه الأخبار غير إشاعة واحدة وصلت لهم مع حامل الرسالة، تفيد أن فيريرا ضل وأصبح مرتدّاً، لتنطلق من هنا حبكتنا، حيث يقرر اثنان من تلاميذه الذهاب لليابان للبحث عنه للتأكد من صحة المعلومة، والتي إن ثبتت صحتها يريان أن من واجبهما رد فضل معلمهما عليهما عن طريق إنقاذه من ظلماته ومصير الهلاك الناتج عن تخليه عن الإله.
تنطلق المهمة بدافع محبة خالصة لمعلم ساهم في تشكيل روحهما وهدايتهما، محبة تجعلهما يخاطران بأرواحهما نفسها غير مكترثين، ما دام ذلك في سبيل إنقاذ روحه من الهلاك.
هل الإيمان غاية أم وسيلة؟
منذ اللحظة الأولى يطرح سكورسيزي تساؤله الأول، حيث لم يرفض الكهنة التخلي عن إيمانهم فقط، بل طالبوا بأن يعذبوا أكثر حتى يظهروا مدى حبهم للإله، ليضعنا أمام تساؤل مهم؛ وهو هل الإيمان غاية في حد ذاته أم هو من المفترض وسيلة للإنسان لمساعدته لتحقيق السكينة على الأرض حتى يصل به بسلام إلى الحياة الأخرى؟
«الآلاف قد ماتوا، بسبب ما جلبناه لهم».
تأتي هذ الجملة على لسان الأب فالينيانو أثناء تعليله السبب المرجح لكفر فيريرا، لتزيد من عمق السؤال وغموض إجاباته، وما جدوى التمسك بالإيمان بإله يتخلى عنا؟ وما مدى قيمة أفعالنا حقّاً؟ وهل نحاسب على تخلينا عن الإيمان بينما لا نسمع سوى صراخنا خلال ذلك الصمت القاتل؟
جيش من اثنين
يحاول رودريجيز وجاروبي إقناع الأب بأن يسمح لهما بالذهاب لليابان في مهمة لإنقاذ روح فيريرا، نراهما من زاوية علوية - عين الإله - بينما يهبطان درجات سلم الكنيسة البيضاء، حيث ينتقلان من عالمهما الآمن المحاط بسكينة الرب إلى عالم الدنيا الغارقة في الآثام وصمته وأثر هذا التحول على أرواحهما، في رحلة مصيرهما فيها مجهول ويخوضانها منفردين.
منذ أن وطئت أقدامهما اليابان تبدأ الأسئلة والشكوك تخالج رودريجيز، ومن ضمنها: «بالتأكيد سمع الإله تضرعهم وهم يموتون، ولكن هل سمع صراخهم؟»
يحاول مارتن أن يكتفي بطرح الأسئلة من خلال ثنايا فيلمه، فيطرح تساؤلاً عن الإيمان - غير المادي بالأساس - وكيف يتحول إلى شيء غاية في المادية لدى المؤمنين، حيث ينتاب رودريجيز القلق لمدى تقديرهم واهتمامهم بالصور والمجسمات المسيحية أكثر من اهتمامهم بالإيمان نفسه، وفي قلب كل ذلك سؤال عن الإيمان وتعاليمه نفسها ومعناها وماذا تمثل وما قيمتها؟ حيث يسأل أحدهم رودريجيز هل يمكن اعتبار محبته الكبيرة للإله مساوية للإيمان؟
لقد كنت ابنك
مع الاقتراب من النصف الثاني من الفيلم، ومع تزايد الشكوك التي تراود قلب رودريجيز وتجعل الإيمان يهتز بداخله، حيث يبدأ الشك في وجود إله من عدمه، وأنه يوجه صلواته للعدم، يطور تلقائياً أنا المؤمن بداخله كي تتصدى لمثل هذه الشكوك، حيث يبدأ في رؤية حياته وتشابهاً مع حياة المسيح، وكأنه صورته الحالية، ويصبح كيتشيجيرو يهوذا خاصته، وينظر إلى النهر، وبدل من أن يرى انعكاس صورته يرى صورة يسوع ويسعد لذلك.
يخبره المحتسب أنه في حالة إنكار الإله سيطلق سراحهم، ولكنه يرفض ويظل متمسكاً بإيمانه، يصلي من أجلهم لكنهم يموتون أمامه، فلا تنفعهم صلاته ولا دعاؤه، وأمام هذه المعاناة يسأل - كما فعل المسيح أثناء صلبه - الإله لماذا تخليت عني؟
وبين هذا وذاك، كيف خاطر رودريجيز بحياته من أجل إنقاذ روح معلمه من العذاب في فعل محبة خالص؟ وكيف ترك آلام الناس وأرواحهم تزهق أمامه عندما كان محركه الدفاع عن إيمانه الشخصي؟
هل يوجد مكان لرجل ضعيف في عالم كهذا؟
يخبره كيتشيجيرو الذي أنكر الإله عدة مرات لكي يحمي رقبته، أنه إذا ولد قبل عدة سنوات كان سيموت كمسيحي صالح، ثم يصيح غضباً ساخطاً على حياته في هذا العصر، طارحاً تساؤلاً آخر عنا وعن قيمة أفعالنا وجدوى محاسبتنا عن أخطائنا إذا لم تكن حيواتنا متشابهة.
يبقي سكورسيزي أسئلته بلا إجابة، فهل صوت المسيح وصورته اللذين يراهما رودريجيز هما هلاوسه الناتجة مما يمر به أم أن المسيح يحدثه حقاً؟ يبقى السؤال قائماً ليسبره المتفرج وفقاً لرؤيته وإيمانه، سكورسيزي غير مكترث بإيجاد إجابة وفرضها ليس فقط لأنه ربما لا يوجد واحدة، بل لأنه هكذا يجب أن يكون الفن مرآة يعكس كل واحد منا صورته فيها.
على عكس فيلم سكورسيزي يصنع صانع الأفلام السويدي إنجمار برجمان فيلماً عن قس تراوده الشكوك منذ البداية، حيث يقابل رجلاً تحضره زوجته للكنيسة لأنه يرغب في إنهاء حياته لأنه غير قادر على تقبل هذا العالم المظلم، لا يستطيع القس أن يمنحه إجابات مطمئنة، ومن خلال تحديقنا في عين القس يتضح عدم إيمانه بالإجابات الذي يقدمها، بل يفشل أحياناً في إيجاد إجابة بالأساس.
فيلم برجمان يطابق المثل الدارج «جئتك لتساعدني فوجدتك تحتاج المساعدة»، وبدلاً من أن يعترف الرجل عما بداخله من مخاوف وأسئلة بلا إجابة متعلقة بالإله وصمته، يقوم القس نفسه بالاعتراف وينفجر عما بداخله من شكوك، والتي أثارتها ما رآه من أهوال في حياته، وبخاصة المتعلقة بموت زوجته، وفي النهاية يردد هو أيضًا عبارات المسيح أثناء صلبه «إلهي لما تخليت عني؟»
ربما يرى القس أن الإجابة المنطقية أن نزيح الإله من المعادلة ليتحول كل ما هو قاسٍ - هذا الصمت - إلى منطقي، ورغم ذلك يستمر في تعاليمه الإيمانية ربما أملاً في حياة ما بعد الموت يستطيع أن يجتمع فيها مع زوجته، أو لأنه على الرغم من وجود الإله في الصورة الكبيرة يجعل بعض الأمور غير قابلة للفهم والإدراك، إلا أن غيابه يجعل الأمور كلها عصية على التقبل.
لا يقدم برجمان تبريراً لصمت الإله، ولا يحاول أن يبني عليه للجزم بعدم وجوده من خلال هذا الصمت، ولكن في النهاية يتركنا مع تساؤل آخر من رحم كل هذا الصمت، وهو هل أقصى آلامنا هو عذاب أرواحنا لا أجسادنا، وشعورنا أن الإله تخلى عنا وتركنا وحدنا؟
يتعرض ماليك لصمت الإله عن طريق جاك الذي يعود بذاكرته لأيام طفولته وما شاهدته من وفاة أخيه الأصغر وكيف تتعامل الأسرة مع هذه الفاجعة، ثم ينتقل إلى جاك كبيراً وهو يشعر بالخواء والفراغ من حوله؛ بعدما سار في طريق الدنيا مبتعداً عن الفضيلة غارقاً في حياة عملية بداخل عالم رأسمالي يستنزفه حتى آخر قطرة، ويحيطه بالمادة فقط ويجعل الحياة من حوله خالية من أي روح، يرجع لذكريات الماضي باحثاً في جنباته عن الإجابة عن تساؤل كيف فقد إيمانه ونسي الله؟
كمحاولة للإجابة على هذا التساؤل يبحر ماليك تدريجياً وبسلاسة في حياة الصبي جاك وهو يستكشف الحياة بين مراحلها المختلفة وهي تنتقل بين جنة الصغار إلى جحيم الكبار، والذي يكتشف معه قسوة العالم، مثل موت صديقه في حمام السباحة، وموت أخيه في سن مبكرة، والعجز والمرض والتشوه والجريمة التي يراها في الناس من حوله، يسلط ماليك الضوء على تحولات النفس البشرية منذ الطفولة وحتى الكهولة، والتي تبدأ من مشاعر غيرة بسيطة بقدوم أخ أصغر يسرق المكانة التي تحظى بها ثم سرعان ما تتطور لمشاعر أكثر غلظة مع مرحلة البلوغ ومحاولة التعرف على النفس والبدء في وضع قدمك في عالم الذكورة الذي يتسم بقسوة شديدة، في فيلم ماليك الحياة مجسدة في صورتين، صورة – الأب - الحياة المادية القاسية والعنيفة، وصورة – الأم - الرحمة والمحبة والتسامح، وبين الصورتين جاك والطريق الذي يود السير عليه.
لا يحاول ماليك أن يعطي إجابة قاطعة على تساؤل الصمت من حولنا، ولكنه على عكس برجمان لا يرفع يديه كليّاً حيث يكتسي فيلمه بلوحات بديعة، سواء الخاصة بمشاهد نشأة الكون أو المناظر الطبيعية، ويكثف هذه الرؤية الجمالية للحياة عن طريق أدواته المتكررة مثل صوت الراوي وأسلوب التصوير ذي الكاميرا الحرة التي تسبح في الهواء لتخلق صورة شاعرية تشبه جوهر الإيمان نفسه، فالإيمان شعوري لا عقلي، كفيلمه، فبين جمال مشاهد الحياة المختلفة المتمثلة في الطبيعة والناس من حولنا وبين القبح الذي يملأ العالم متجسداً في الموت والمرض والظلم، يترك لنا ماليك حرية أن نختار.
نرى البسمة على وجه جاك بعد أن يختار طريق الفضيلة، صورة أمه، صور الإيمان والمحبة آملاً في النهاية في جنة تعوضه عن كل هذا القبح، وتنتشله من إحساس التيه والضياع الذي غلبه عند الكبر.
هو فيلم قوطي يأخذك في رحلة لتسبر غور إيمانك إن أردت أو يترك مع أسئلتك كما هي إن شئت.
Dekalog: One 1988 -4
ورغم أن العمل يصنف ضمن الأعمال التلفزيونية نظرياً، إلا أن الكثير يرونه عبارة عن عشرة أفلام سينمائية، ويصفه ستانلي كوبريك أحد آلهة الشاشة الكبيرة بأنه العمل الوحيد الذي يمكن أن يفكر فيه عند الحديث عن عبارة تحفة فنية، كما أن الحلقات عُرضت بأكملها في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته السادسة والأربعين؛ لذلك يمكننا وضعه بسهولة ضمن الأعمال السينمائية التي تطرقت لمعضلة «صمت الإله».
في حلقته الأولى والمفترض أنها مستوحاة من الوصية الأولى «أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ، لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي»، يقدم حكاية تطرح عدة أسئلة عن الوجود والإله وصمته وكيف نتعامل مع هذ الصمت، تدور حكاياتنا بين طفل يصطدم بأسئلة الوجود القاسية وحقائقه البشعة كالموت، وما جدوى الحياة إذا كنا سنموت في النهاية، وبين أب لا يؤمن إلا بالعلم وحقائقه فقط بدون وجود لأي غيبيات أو ماورائيات في مفهومه.
بعد أن يعرفنا كيشلوفسكي على حياة العائلة الصغيرة وعالمهم يدخلنا على الفور في محرك حبكته الرئيسية، والذي يصب منه أسئلته جميعًا، حيث يقوم الأب بإجراء عملية حسابية باستخدام جهاز الحاسوب الخاص به لقياس سمك الجليد والوزن القادر على تحمله لكي يسمح لابنه باللعب عليه، وبعد انتهائه منها والتأكد من أن الجليد آمن يقوم بإعادة إجراء العملية الحسابية للمرة الثانية، ثم يذهب لاختبار الجليد بنفسه.
يترك كيشلوفسكي الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات، فهو يرفض أن يملي عليك الإجابة، لنصل إلى التساؤل الأكثر أرقاً، وهو ربما جوهر الحلقة نفسه، حيث لم تكن الوصية الأولى لكيشلوفسكي تتساءل عن وجود الإله من عدمه فقط، بل كانت تطرح تساؤلاً أعمق، وهو لو افترضنا أن الابن مات لأن والده تحدى الإله متسلحاً بالعلم - لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي - أو حتى لأن العلم لا يمكن الوثوق به أمام قدرة الإله، فأين رحمة الإله الذي قرر أن يقتل طفلاً ليثبت محدودية الإنسان أمامه؟
إذا كان موت الطفل دليلاً على وجود إله ومحدودية قدرة الإنسان، فإن موته – الطفل - أيضاً دليل على غياب رحمته، والتي هي إحدى صفات وجوده أو على الأقل تنفي عنه تلك الصفة!
يجسد كيشلوفسكي صمت الإله في صورة شاب يجلس قرب النهر -عند مكان وقوع الحادث - يجلس فقط يراقب في هدوء، وربما يذرف - حيث يمسح دموعه في إحدى اللقطات - بعض الدموع على حالنا وعلى ما ستئول إليه الأمور، في تجسيد للإله المراقب فقط الذي لا يتدخل، يرانا نتألم وربما نفشل في تحقيق مسعانا لكن لا يقدم لنا المساعدة، فقط يبكي على حالنا وضعفنا وكيف تلتهمنا الحياة بلا رحمة كما في مشهد النهاية، حيث ذهب والد الصبي للكنسية كملاذ أخير، ربما يمنحه بعض السكينة، لكنه لا يستطع التضرع ليقوم بصب غضبه على المذبح المقدس لتقطر إحدى الشموع قطرات على لوحة سيدة تشيستوخوفا - السيدة العذراء - لتبدو كأنها تبكي على موت الصبي.
الإله المتواجد طوال الحلقة عند النهر يختفي - عند وقوع الحادث - ربما لعدم قدرتنا على رؤيته في مثل هذه اللحظات، فكيف نرى رحمته وتجليه في الموت.
كيشلوفسكي لا يحاول أن يمنحنا إجابة، بل فقط يضعنا أمام لب التساؤل، يتجاوز معضلة صمت الإله ويتعامل مع النتيجة نفسها، فهل نصدق وجود إله قاسٍ بلا رحمة صامت عاجز عن مساعدتنا، أم ننكر وجودة لعدم قدرتنا على تقبل هذه الفكرة؟
مع اقتراب نهاية الفيلم تذكرت الوصايا العشر لكيشلوفسكي، يطرح الفيلم نفس التساؤل الذي طُرح في الحلقة الأولى منها، بالعودة لفيلمنا يصنعها هنا فريدكن بالتعاون مع ويليام بيتر بلاتي كاتب السيناريو بحرفية وذكاء شديد، الرعب هنا وسيلة وليس غاية في ذاتها، هو أداة لسرد الأحداث ولطرح السؤال في النهاية، ويطرح معه معضلة الوجود ويترك لنا الإجابة.
ورغم كون الفيلم يحاول التلاعب بنا قليلاً بين التصديق في العلم أو الإيمان بالأرواح الشريرة وشياطينها، ولكن فريدكن لم يتلاعب بنا كثيراً، وأخبرنا منذ البداية حيث ظهر الشيطان في مونتاج سريع في المطبخ خلف ماكنيل في بداية الفيلم، فعل ذلك لأنه لم يكن يريد أن يستخدم هذا التلاعب من أجل الإثارة فقط، هو هنا من أجلنا نحن، من أجل أن يتلاعب بمشاعرنا وأفكارنا، من أجل أن يساهم في مشهد النهاية واكتمال الصورة.
محاولة تمسك شخصيات الفيلم بالعلم في البداية ليست رغبة في دحض الخرافة ودحض وجود الإله معها حبّاً في ذلك ورغبة في العيش في عالم بلا معنى، بل هي محاولة من أجل التمسك بالعقل غير القادر على استيعاب وجود إله مع كل هذا الصمت من حولنا، الشيطان هنا ورغم كونه دليلاً على وجود قوة أعلى تتمثل في الإله، ولكنه في نفس الوقت يطعن في رحمته عن طريق خلق هذه القوة الشريرة المتمثلة في الشيطان - والذي هو مجاز للشرور بعالمنا - وذلك لإثبات وجوده عن طريق إيذاء طفلة، وكأنه يعطينا الإيمان باليد اليمنى ويأخذه منا باليسرى.
في نهاية الفيلم يضحي كاراس بحياته من أجل إنقاذ الطفلة في فعل مسيحي خالص يشابه تضحية المسيح من أجل أتباعه، وكأن لا حل من أجل إنقاذ حياة الآخرين إلا بتقديم أجسادنا كقرابين للإله من أجل إنقاذ من نحب.
في فعل التضحية خلاص شخصي، لكاراس الذي فقد إيمانه، لم يعد قادراً على حب الإله، قرر أن ينهي حياته لعدم قدرته على العيش في عالم به هذا الإله غير الرحيم، بالإضافة لعدم قدرته على العيش مع شعوره بالذنب تجاه موت أمه، فقرر أن يضحي بحياته التي لم يعد لها قيمة بالنسبة له في مقابل حياة طفلة ما زال أمامها الحياة، وربما لن تكتشف أي شيء لتظل تحيا حياة هانئة.
في آخر مشاهد الفيلم يختار القس (داير) - الذي علم بحقيقة ما حدث - عدم نزول السلم، عدم النزول إلى العالم السفلي، عالم قاسٍ، بداخله معنى يصعب على الإنسان تقبله، ليقرر البقاء في عالمه مؤمناً بأنه تحت رحمة إله سيساعده عند الصلاة إليه.
مع انتهاء الفيلم يتركنا فريدكن مع نفس التساؤل الذي طرحه كيشلوفيسكي؛ «أنصدق وجود إله قاسٍ بلا رحمة، أم ننكر وجوده لعدم قدرتنا على تقبل هذه الفكرة؟»
أعود مجدداً للمعلم المخضرم مارتن سكورسيزي لأتذكر السؤال الذي طرحه في نهاية فيلمه «Shutter Island 2010» على لسان تيدي، ما الأسوأ؛ أن أعيش كوحش، أو أموت كرجل صالح؟